على سطح كوكبنا القديم، وقبل أن تشرق أوّل شمسٍ على الأرض التي ستعرف الإنسان، وُلدت أسطورة الديناصورات، لم تكن تلك المخلوقات مجرّد كائنات عملاقة تتجوّل في سهول موحشة، بل شكّلت انعكاسًا مذهلًا لقدرة الحياة على التنوّع والتكيّف وسط بيئة تتغيّر بلا توقّف. منذ أكثر من 150 مليون سنة، بدأت قصّة الديناصورات ككائناتٍ صغيرة ومتواضعة تسير بخفّة على أطرافها، وبمرور الزّمن، تحوّلت إلى عمالقة تسود اليابسة، من التيرانوصور المفترس إلى الديبلودوكوس صاحب العنق المهيب. تطوّرت أجسادها بحرفيّة مذهلة: عظام حوض قويّة تتيح لها المشي منتصبة، وأقدام ترتكز على أصابعها فقط، مثلما تفعل الطيور اليوم... أحفادها المعاصرون.
لم يكن تطوّر الديناصورات مجرّد صدفة بيولوجية، بل كان استجابة طبيعية لسلسلة طويلة من التحدّيات البيئية. في العصر الترياسي، عندما كانت القارات لا تزال قطعة واحدة تُعرف باسم بانجيا، واجهت الحياة منافسة شرسة من زواحف أخرى. غير أن الديناصورات امتلكت ميزة فريدة: وضعيّة الجسد المنتصبة، التي منحتها سرعةً أكبر وقدرةً على التحكّم بحركتها بدقّة، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن الديناصورات وحدها، فقد تقاسمت الأرض مع مخلوقات أخرى لا تقلُّ غرابة: الزواحف الطائرة "التيروصورات" التي ملأت السماء بأجنحتها العريضة، والـ"إكثيوصورات" التي جابت المحيطات كدلافين العصر الجوراسي. ومع ذلك، بقيت الديناصورات مميّزة عن كل تلك الأنواع بفضل سمات تشريحية جعلتها تترّبع على عرش اليابسة.
وما يثير الدهشة أكثر أنّ الديناصورات لم تنقرض كليًا. صحيح أنّ معظمها قد اختفى قبل 66 مليون سنة في نهاية العصر الطباشيري، إلّا أنّ فرعًا منها، تحديدًا مجموعة من الديناصورات الثيروبودية مثل فيلوسيرابتور وتي-ريكس، كان قد بدأ بالفعل مسيرته التطوّريّة خلال العصر الجوراسي، متحوّلًا تدريجيًا إلى الطيور التي نعرفها اليوم، عندما ننظر إلى عصفور صغير يقفز بين الأغصان، فنحن نرى في الحقيقة وريثًا شرعيًا لتلك المخلوقات العملاقة.
وعلى الرغم من أنّ الديناصورات قد تبدو وكأنّها جزءٌ من أسطورة قديمة، إلّا أنّ اكتشافها ودراستها هو بمثابة رحلة مستمرّة في الزمن، تكشف لنا العديد من أسرار الماضي البعيد. كيف يمكن لنا أن نجد بقايا الديناصورات؟ الجواب ليس بسيطًا كما قد يظن البعض، حيث يعتقد الكثيرون أنّ مهمّة الباحثين في هذا المجال تنحصر في الذهاب إلى مناطق نائية وبدء الحفر عشوائيًا. ولو كان الأمر كذلك، لما تمّ العثور على الكثير من الهياكل العظمية للديناصورات، لأنّ الحفريات الفقارية نادرة للغاية. ولكن أيّ نوع من الرسائل يصلنا من أسياد ذلك الزمن الغابر في وقتنا المعاصر؟
من طبقات الصخور إلى شاشات العرض
إنّ عمليّة تحجّر الحيوانات، بما فيها الديناصورات، هي آليّة معقّدة ودقيقة. فبعد موت الحيوان، تبدأ دورة التحلّل تدريجيًا، حيث تتسارع الإنزيمات البروتوليتية في تدمير الأنسجة الليّنة، وتبدأ الكائنات القارضة الصغيرة في التغذّي على الجسم المتحلّل، أما إذا تُركت الجثّة في العراء، فإنّ الظروف البيئيّة مثل العوامل المناخيّة والحيوانات المفترسة ستحوّل الهيكل العظمي إلى قطع متفرّقة خلال فترة قصيرة، ومع ذلك، هناك ظروف خاصة يمكن أن تساهم في الحفاظ على بقايا هذه الكائنات، وأهمّها هو التغطية السريعة للأجسام الميّتة.
وفي حالات نادرة، عندما يتعرّض الحيوان للدفن بسرعة بعد موته، تتحسّن فرصته في أن يستحيل إلى حفريّات. ومن بين أندر هذه الحالات، قد يحدُث أنّ حيوانًا قد دُفن حيًا، وهو ما حدث في منطقة "أوكها تولغود" في صحراء غوبي في منغوليا، حيث تمّ العثور على عيّنات محفوظة بشكل مذهل. تحت هذه الظروف، يمكن أن تُحفظ الحيوانات بشكل كامل، مع العظام والأنسجة المدفونة في رمال مشبّعة بالماء بسبب الأمطار الثقيلة، لتتحوّل إلى طبقات صلبة كالإسمنت.
عندما يُدفن الحيوان بعد موته في بيئات مثل السهول الجافّة شبه القاحلة، حيث يكون التحلّل بطيئًا، وبالتالي تُحفظ الهياكل العظمية بشكل أفضل. وعلى النقيض من ذلك، في الغابات الاستوائيّة، تتآكل الحيوانات الميّتة بسرعة ويَصعُب العثور على بقاياها. كما أنّ بعض البيئات مثل المناطق الجبليّة لا توفّر بيئة مواتية للحفاظ على بقايا الحيوانات، إذ تعصف الأمطار الغزيرة بهذه المناطق وتحطّم الهياكل العظميّة قبل أن تتمَّ عمليّة تحوّلها إلى حفريّات.
حتى بعد أن تُوارى بقايا الكائنات في أعماق الأرض، تبدأ رحلة أخرى لا تقل تعقيدًا عن حياتها السابقة. حيث تتفاعل العظام مع المعادن المحيطة، فتستبدل مكوّناتها الأصليّة بعناصر مثل السليكا والكالسيت، ما يحافظ على أدقِّ تفاصيلها، بما في ذلك حلقات النمو الخلويّة التي تبقى شاهدة على تاريخها، رغم مرور ملايين السنين. ومع التقدّم في تقنيّات التصوير، كالأشعّة السينيّة والمسح الرقمي، أصبح بالإمكان اختراق طبقات الزمن، ليس فقط لرؤية العظام، بل للكشف عن بقايا البروتينات وحتى آثار الأحماض النوويّة، فاتحين بذلك نافذة مذهلة على أسرار الحياة القديمة.
إنّ العثور على الديناصورات ليس مجرّد عمليّة حفر تقليديّة، بل هو علم معقّد يعتمد على تقنيّات متقدّمة وتخطيط دقيق. التكنولوجيا الحديثة، مثل استخدام الطائرات بدون طيّار (الدرونز) والأقمار الصناعيّة، توفّر أدوات قويّة للبحث، ممّا يسمح للعلماء بتحديد المواقع المثاليّة لاستكشاف الحفريّات. كما تساهم أدوات مثل أجهزة تحديد المواقع (GPS) في تحديد المواقع الجغرافيّة بدقّة، ممّا يعزّز من كفاءة البحث.
يبدأ علماء الحفريّات باختيار الموقع بعناية، مستهدفين مناطق تحتوي على طبقات من الصخور الرسوبيّة مثل الحجر الجيري أو الرملي، والتي تشكّلت عندما كانت الديناصورات تجوب الأرض، أي بين 230 و66 مليون سنة مضت. بمجرّد تحديد الموقع، تبدأ مرحلة الاستطلاع، حيث يسير علماء الحفريات عبر مساحات شاسعة، يتفحّصون الأرض بعناية بحثًا عن شظايا العظام التي قد تبرز من التربة. يمسكون بأداة أساسيّة تُعرف بمطرقة الصخور، يستخدمونها لاستخراج الشظايا الظاهرة أو الكشف عن المزيد من العظام المدفونة. ويتمّ تمييز العظام المتحجّرة عن الصخور العاديّة من خلال ملمسها الحُبَيبي ووجود ثقوب صغيرة تشير إلى ممرّات الأوعية الدمويّة والخلايا العظميّة القديمة.
وعندما يتمّ العثور على أحافير واعدة، تبدأ مرحلة التنقيب. وهنا، لا يتم استخراج العظام منفردة، لأنها غالبًا ما تكون هشّة للغاية، فيُستخرج العظم مع التربة المحيطة به. تتطلّب عملية استخراج العيّنة من الصخور دقّة وعناية بالغتين، حيث من الممكن أن تكون الصخور صلبة جدًا أو هشّة، وفي هذه الحالات يتطلّب الأمر أدوات متخصّصة مثل المطارق الصغيرة وأجهزة الحفر الهوائيّة الدقيقة. وكلُّ اكتشاف يتطلّب اهتمامًا بالغًا، فكلُّ خطوة من مراحل الاستكشاف والتمهيد تحتاج إلى تقنيّات دقيقة للحفاظ على هيكل العظام كما هو.
بعد ذلك، يتمّ نقل العيّنة بعناية إلى المختبر. هناك، يستخدم فريق متخصّص أدوات دقيقة لتحرير العظام من الصخور دون الإضرار بها، و.توفّر التقنيّات الحديثة، مثل المسح بالليزر والتصوير الرقمي، طرقًا جديدة لتوثيق وفحص العيّنات، ممّا يتيح للعلماء معرفة المزيد عن التشريح الداخلي للحيوانات المنقرضة دون الحاجة إلى إتلاف العيّنة.
بفضل التقدّم التكنولوجي المتسارع والجهود المستمرّة من قبل العلماء، أصبحت اكتشافات الديناصورات أكثر تكرارًا من أيّ وقت مضى، لدرجة أنّ معدّل اكتشاف الأنواع الجديدة من الديناصورات وصل إلى زُهاء اكتشاف نوع جديد كل أسبوع. وهذا يعكس العمل البحثي المتواصل والموارد المتزايدة التي تُخصّص لهذه الأبحاث، والنتائج المستمرة التي تفتح لنا أبوابًا جديدة لفهم تاريخ الحياة على كوكبنا.
الاكتشافات الأولى
على الرّغم من أنّ الناس عثروا على عظام ديناصورات متحجّرة في أوقات متعدّدة من الزمن الغابر، فإنّ التعرّف على أنواع الديناصورات وفكرة أنّ الديناصورات هي عائلة كبيرة من الزواحف المنقرضة لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر. ففي عام 1818، اكتُشفت أجزاء من هيكل عظمي غريب بالقرب من مدينة أكسفورد البريطانية في محجر للوح الصخر، وتمّ أخذ هذه الأجزاء إلى ويليام باكلاند، الأستاذ في جامعة أكسفورد. عرض باكلاند الاكتشافات على الخبراء في جميع أنحاء أوروبا، واستغرق الأمر منه ست سنوات من المقارنات للتعرّف على العظام باعتبارها تعود إلى نوع غير معروف سابقًا، والذي وصفه بأنّه "سحلية متحجّرة كبيرة"، وقد أطلق عليها اسم "ميغالوسوروس"، ممّا جعلها أول نوع من الديناصورات يتم تسميته علميًا. كان ميغالوسوروس محيّرًا بسبب اختلافاته عن الأنواع الأخرى وأيضًا لأنّ بقاياه كانت مجزّأة: فقد كانت العظام الوحيدة التي تمّ العثور عليها هي بعض الفقرات، وعظام الأطراف، وفك سفلي بأسنان حادّة ومسنّنة.
على مدار العقدين التاليين، أبلغ العلماء عن العديد من الأنواع المتحجّرة التي تمّ العثور عليها في إنجلترا وأماكن أخرى في أوروبا، مثل نوع من آكلات الأعشاب التي كانت أسنانها مشابهة جدًا لتلك التي في الإغوانا الخضراء، ولكن بحجم أكبر يصل إلى عشرين مرّة. وقد أطلقوا على هذا النوع اسم "إيجوانودون". ومع مرور الوقت، تراكمت هذه الاكتشافات الغامضة، وتمّ تفسير بعض الأنواع على أنّها سحالي عملاقة وأخرى على أنّها كائنات تشبه التماسيح، لكن الهياكل العظميّة كانت مجزّأة للغاية بحيث لا يمكن إعطاء صورة واضحة لما كانت عليه هذه الكائنات. في عام 1842، ابتكر عالم التشريح البريطاني ريتشارد أوين فكرة أصبحت إرثه الأهم: جميع هذه الأنواع كانت تتشابه في بعض الميزات التشريحيّة وتنتمي إلى فئة غير معروفة من الزواحف، التي أطلق عليها اسم "ديناصوريا". اسم "ديناصوريا" يعني حرفيًا "السحالي الرهيبة" أو "السحالي العظيمة المخيفة"، كما وصفها أوين. ولكن إسهامات ريتشارد أوين لم تتوقّف عند هذا الحد، فقد نظم بعد بضع سنوات أوّل عرض عام لتماثيل الديناصورات، مقدّمًا تفسيره لهذه الزواحف القديمة في منتزه كريستال بالاس في لندن.
انتشرت أخبار "السحالي الرهيبة" المُكتشَفة في إنجلترا وأجزاء أخرى من أوروبا بسرعة حول العالم، وسرعان ما بدأ العثور على كائنات مماثلة في بلدان أخرى. ولكن كانت هذه الاكتشافات المبكّرة غير مكتملة بشكل محبط، مع وجود عدد قليل فقط من العظام المعروفة من كل نوع. لكنّ الأمور تغيّرت في عام 1858، عندما تمّ استخراج أول هيكل عظمي مكتمل نسبيًا لديناصور في ولاية نيوجيرسي. تمّ إرسال
العظام إلى أكاديمية الفلسفة والعلوم الطبيعية في فيلادلفيا، حيث أدرك عالِم الحفريّات جوزيف لايدي أنّه لم يكتشف فقط نوعًا جديدًا من الديناصورات، بل أيضًا أنّ هذا الكائن الذي يبلغ طوله 20 قدمًا كان من آكلات الأعشاب، وكان ثنائي الأرجل. كان أوين وغيره من العلماء الأوائل يعتقدون دائمًا أن الديناصورات كانت رباعية الأرجل، وقد قاموا بإعادة بنائها في أشكال مستوحاة من الثدييات الكبيرة والقويّة مثل وحيد القرن والفيلة. سمّى لايدي هذا النوع الجديد "هادروسوروس". وأظهر الاكتشاف أنّ أوين كان مخطئًا، وأنّ بعض الديناصورات الكبيرة كانت ثنائيّة الأرجل.
حروب العظام
تزامن وصول عظام "هادروسوروس" إلى أكاديمية الفلسفة والعلوم الطبيعية في فيلادلفيا مع حضور شاب يُدعى إدوارد درينكر كوب. وكان كوب، الذي ينحدر من عائلة كويكر الثريّة، قد رفض تولّي الأعمال الزراعيّة العائليّة بسبب شغفه بالعلوم الطبيعيّة، وقرّر أن يصبح متدرّبًا في الأكاديمية. وعلى الرغم من افتقاره للتعليم الجامعي، كان كوب شغوفًا بالمعرفة، فقد بدأ في نشر المقالات العلميّة وهو في سن 18 عامًا. كان يعمل كعالم حفريّات بتمويل ذاتي، وكان لديه أسلوب عمل سريع وجريء. نشر المئات من الأوراق العلميّة بسرعة مذهلة، ونتيجة لذلك وصف أكثر من ألف نوع من الحيوانات، سواء المنقرضة أو الحيّة. ومع حلول السبعينيات من القرن التاسع عشر، أصبح كوب واحدًا من بطلين في أكبر وأشهر صراع في تاريخ علم الحفريات، والذي عُرف باسم "حروب العظام".
الشخصيّة الثانية كانت أوثنييل تشارلز مارش، الذي امتلك خلفيّة أكاديميّة أكثر تقليديّة. وقد وُلد في عائلة متواضعة، لكنّه حظي بدعم عمّه الثري، وهو ما مكّنه من التخرّج من جامعة "ييل" ليصبح لاحقًا أستاذًا في علم الحفريّات هناك. في عام 1882، عُيّن كعالم حفريّات في هيئة المسح الجيولوجي الأمريكيّة، ثم تولّى فيما بعد رئاسة الأكاديميّة الوطنيّة للعلوم. كان مارش أكثر انطوائيّة، يعمل بوتيرة أبطأ، ويُرجّح أنّه كان أكثر دقة واهتمامًا بالتفاصيل مقارنةً بمنافسه كوب. ورغم اختلاف شخصيتيهما وخلفيّاتهما، فقد اشتركا في طموح جامح للوصول إلى القمّة كأبرز علماء الحفريّات، وكان كلٌّ منهما مستعدًا للسير في أيِّ طريق، مهما كان وعرًا، في سبيل تحقيق تلك الغاية.
خلال سبعينيّات القرن التاسع عشر، أشعلت تقارير عن اكتشافات مذهلة في الغرب الأمريكي فتيل المنافسة بين إدوارد كوب وأوثنييل مارش، فقاد كلٌّ منهما حملات استكشافيّة إلى مناطق مختلفة في كولورادو ووايومنغ. وعلى مدار أكثر من عقد، أرسل العالمان فُرقًا من "صيّادي العظام"، الذين جمعوا آلاف الأحافير، ليسجّلوا بذلك لحظة فارقة في تاريخ علم الحفريات. ولأوّل مرّة، كشفت الهياكل العظميّة المكتملة لأنواع جديدة من الديناصورات عن تنوّعها المذهل وأحجامها الهائلة. خلال هذه الفترة، اكتُشفت بعض أشهر أنواع الديناصورات، مثل "ألوصور"، و"ستيجوصور"، و"ديبلودوكوس"، و"تريسيراتوبس"، وغيرها. وفي نهاية المطاف، وصف مارش 80 نوعًا جديدًا من الديناصورات، بينما وصف كوب 56 نوعًا. ورغم أنّ العديد من هذه الأنواع لم تعد تُعتبر صالحة علميًا – إذ تمّ حينها إطلاق أسماء مختلفة على هياكل متشابهة لا تمثّل سوى اختلافات فرديّة أو مراحل نمو – فقد كشفت تلك الاكتشافات عن تنوّع مذهل جعل علم الحفريات الأمريكي يحتلّ موقعًا مرموقًا عالميًا بين العلوم الطبيعية.
لكنّ المنافسة بين مارش وكوب لم تكن مجرّد سباق علمي، فقد امتدّت إلى ما يُشبه حرب التجسّس، حيث لم تقتصر بعثاتهما على جمع الأحافير، بل شملت أيضًا محاولات مستمرة للتجسّس على استكشافات الآخر، واستقطاب عمّال الفريق المنافس، ورشوة السكّان المحليين لإخفاء مواقع الحفريّات، بل وحتّى سرقة الأحافير من بعضهم البعض. وفي بعض الحالات، كانوا يلجؤون إلى تدمير الأحافير التي لم يتمكنوا من نقلها، فقط لمنع خصمهم من الحصول عليها. لقد استنزف العالمان كلّ مواردهما المتاحة، بما في ذلك ثرواتهما الشخصية، وفي النهاية، انتهى بهما الحال إلى الإفلاس والتهميش داخل المجتمع العلمي.
اكتشاف تي-ريكس
في بداية القرن العشرين، كانت علوم الحفريّات في أوج ازدهارها، وفي قلب هذا التطوّر كان متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي (AMNH) أحد أبرز المنظّمات التي سعت لاستكشاف أسرار الديناصورات. ومن بين أبرز الأسماء التي ارتبطت بتلك الاستكشافات كان بارنوم براون، الذي أصبح واحدًا من أشهر جامعي الحفريّات في تاريخ علم الحفريّات. أثناء عمله في المواقع الشهيرة التي كانت محل نزاع بين كوبر ومارش، ابتكر براون طريقة جديدة لحمل الحفريات عن طريق تغليفها بالجبس، وهي تقنية أتاحت له استكشاف أعمق لمواقع الديناصورات. هذه الطريقة، التي وثّقها براون في رسائله إلى عالم الحفريات أوزبورن، ستسهم في حماية العديد من الحفريات الهامة، بما في ذلك تلك التي قادت لاكتشاف الديناصور الشهير "تيرانوصور ريكس" المعروف ب"تي-ريكس".
في عام 1902، قاد براون رحلة جديدة إلى الغرب الأمريكي بحثًا عن رأس ديناصور "تريسييراتوبس"، ولكنّ اكتشافه كان أكثر أهمية ممّا كان يتوقع، إذ أنّه قد عثر على بقايا ديناصور ضخم، لم يكن أحد قد رآه من قبل، وتبيّن لاحقًا أنه "تي ريكس"، أكبر المفترسات التي عاشت على كوكب الأرض. بعد بضع سنوات، وفي عام 1915، استطاع براون وفريقه من عرض هيكل عظمي كامل لهذا الديناصور، الذي أصبح مركزًا رئيسيًا في المتحف، ليعطي الزوار لمحة عن قوة وعظمة هذا الكائن الفريد.
أصبح تي-ريكس اليوم يُعتبر رمزًا لعصر الديناصورات، كما لو أنّه الملك الأوحد لهذا العصر. فمنذ اكتشافه لأول مرة، أصبح أكثر الديناصورات شهرة، وقد ورد ذكره في الأدب والمراجع العلمية أكثر من أيّ نوع آخر من الديناصورات، لدرجة أنّه أصبح مرادفًا لديناصور العصر الطباشيري بشكل خاص. يمكننا أن نقول إنّ هذا الكائن قد شكّل نقطة الانطلاق لرحلة طويلة في عالم الديناصورات، وهو يشهد على مدى تأثّر الثقافة الشعبية بعوالم ما قبل التاريخ.
مونديال الديناصورات
مع بداية العشرينات، بدأ البحث عن الديناصورات في مختلف أنحاء العالم، حيث بدأ العلماء من مختلف البلدان في إطلاق حملات استكشافية لفتح أسرار الأرض واكتشاف عوالم ما قبل التاريخ. كانت الحفريات تزداد بشكل مطّرد، لكنّ الاكتشافات الكبرى كانت تلك التي حدثت في تناداجورو، تانزانيا، حيث أرسل متحف التاريخ الطبيعي في برلين بعثات ضخمة، وجمعوا آلاف الأطنان من العظام الأحفورية. في تلك الفترة، اكتشف العلماء كائنات مثل "جيراڤاتيتان" (الذي كان يُعتقد سابقًا أنه "براشيوسورس")، والذي اعتُبر أكبر الديناصورات المعروفة. في ذات الوقت، كانت البعثات الأمريكية في وسط آسيا، بقيادة المُستكشف روي تشابمان أندروز، قد وصلت إلى صحراء غوبي في منغوليا. هناك، وُجدت بيضات الديناصورات لأوّل مرّة، بالإضافة إلى حفريات جديدة كالديناصور "أوفي رابتور" و"بروتوسيراتوبس" وغيرهما من الكائنات التي أثرت في علم الحفريات وجعلته أكثر تنوعًا وثراءً.
ومع تطوّر البحث العلمي خلال القرن العشرين، كان للحروب السياسية، مثل الحرب الباردة، أثرها البالغ على هذه الاكتشافات. فبينما كانت البعثات الغربية تتوجّه إلى مناطق مثل أمريكا الجنوبية وآسيا، كان الاتّحاد السوفيتي ودول أخرى قد بدأت في إجراء بعثات خاصة في مناطق مثل منغوليا والصين، ممّا أدّى إلى عزلة بعض الاكتشافات في أماكن غير متاحة للعالم الغربي. ومع ذلك، فإن هذه الفترات التي شهدت الانقسام السياسي لم تفتقر إلى الاكتشافات المهمة. ففي الصين، على سبيل المثال، كان اكتشاف الديناصورات المحنّطة بالريش قد أضاف بُعدًا جديدًا لفهمنا لشكل الديناصورات في الماضي، كما أثبت هذا الاكتشاف أن العديد من الديناصورات كانت مغطاة بريش شبيه بريش الطيور .وفي نهاية القرن العشرين، بدأ التعاون الدولي في مجال الحفريّات يتزايد، وبدأت بعض البلدان، مثل الصين والأرجنتين، في اكتشاف أنواع جديدة من الديناصورات. كانت الحفريات في جنوب الكرة الأرضية، مثل باتاغونيا، تكشف عن أحجام ضخمة لديناصورات مثل "باتاغوتيتان"، الذي كان يصل وزنه إلى 60 طنًا.
ومنذ مطلع الألفية الجديدة، بدأ العالم يشهد عصرًا جديدًا من التعاون بين العلماء في جميع بقاع الأرض، حيث أصبحت الحفريّات تُدرَس باستخدام التقنيّات الحديثة مثل أجهزة المسح المحوري ثلاثي الأبعاد، والتي تسمح للباحثين بإجراء دراسات دقيقة عن العظام، والدماغ، والأعضاء الداخلية التي كانت بعيدة عن متناول العين. وتساهم هذه التقنية في فهم أعمق عن سلوك وتغذية الديناصورات، بل وحتّى ألوانها، ممّا يجعل علم الحفريّات الآن في مرحلة من التطور السريع.
هل لا تزال الديناصورات على قيد الحياة اليوم؟
قد يدهشك أن تعلم أنّ الديناصورات لا تزال على قيد الحياة، ولكن لا داعي للبحث عنها في جزيرة نائية، فهي موجودة حولنا في كل مكان، لأنّ جميع الطيور هي ديناصورات. فبصرف النظر عن أنّ الطيور تطوّرت من الديناصورات، فهي علميًا تعتبر ديناصورات، تمامًا كما نحن البشر نُعتبر من فصيلة الرئيسيات. منذ زُهاء 66 مليون سنة، أدّى اصطدام كويكب إلى القضاء على العديد من الديناصورات، ولكن سلالة واحدة فقط هي التي نجت، وهذه السلالة هي أسلاف جميع الطيور الحديثة. وحتّى تاريخ اليوم، لم يجد علماء الحفريّات أيّ ديناصورغير طائر كان على قيد الحياة بعد حدث الانقراض. نعلم الآن أنّ العديد من مجموعات الديناصورات كانت تمتلك ريشًا، ونظرًا لأنّ مُعظم هذه الديناصورات لم تكن قادرة على الطيران، نفترض أنّ الريش قد تطوّر في البداية لتنظيم حرارة الجسم أو لأغراض أخرى لم يتم التوصّل إليها بعد.
وكانت الديناصورات، مثل الطيور، تسير على قدمين، تضع البيض، تحمل على جسدها ريشًا وفي عروقها دمًا بدرجة حرارة عالية نسبيًا، فضلًا عن أنّها كانت تتمتّع بعظام مجوّفة جعلتها أخف وزنًا، وعقول كبيرة نسبيًا مقارنة بالزواحف المعاصرة. وبالتّالي، فقد كانت الديناصورات في مجملها تشبه الطيور إلى حد كبير. ولنفرض أنّك قد حصلت على آلة الزمن وتمّ نقلك إلى حقبة الحياة الوسطى، فقد تظن عندما ترى بعض هذه الديناصورات أنّها مجرّد ديوك رومية عملاقة. ولذلك، في المرّة القادمة التي ترى فيها حمامة متواضعة في الشارع، تذكّر أنّها جزء من سلالة استطاعت النجاة من حدث الانقراض الجماعي الذي حدث منذ 66 مليون سنة وأدّى إلى اختفاء جميع سلالات الديناصورات الأخرى.



